فصل: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (الزَّمَانُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الصَّرْفُ نَاجِزًا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُوضَعُ فِيهِ:

وَأَمَّا زَمَانُ الْقَضَاءِ بِالْجَائِحَةِ، فَاتَّفَقَ الْمَذْهَبُ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَبْقِيَةِ الثَّمَرِ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ حَيْثُ يَسْتَوْفِي طِيبَهُ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَبْقَاهُ الْمُشْتَرِي فِي الثِّمَارِ لِيَبِيعَهُ عَلَى النَّضَارَةِ، وَشَيْئًا شَيْئًا: فَقِيلَ: فِيهِ الْجَائِحَةُ تَشْبِيهًا بِالزَّمَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَيْسَ فِيهِ جَائِحَةٌ تَفْرِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّمَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِالْجَائِحَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الزَّمَانَ يُشْبِهُ الزَّمَانَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ وَيُخَالِفُهُ مِنْ جِهَةٍ، فَمَنْ غَلَّبَ الِاتِّفَاقَ أَوْجَبَ فِيهِ الْجَائِحَةَ، وَمَنْ غَلَّبَ الِاخْتِلَافَ لَمْ يُوجِبْ فِيهِ جَائِحَةً (أَعْنِي: مَنْ رَأَى أَنَّ النَّضَارَةَ مَطْلُوبَةٌ بِالشِّرَاءِ كَمَا الطِّيِبُ مَطْلُوبٌ، قَالَ: بِوُجُوبِ الْجَائِحَةِ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الْأَمْرَ فِيهِمَا وَاحِدًا قَالَ: لَيْسَ فِيهِ جَائِحَةٌ)، وَمِنْ هَاهُنَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْجَوَائِحِ فِي الْبُقُولِ.

.الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ تَابِعَاتُ الْمَبِيعَاتِ:

الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ جُمَلِ النَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ (وَهُوَ فِي تَابِعَاتِ الْمَبِيعَاتِ):
وَمِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ الْمَشْهُورَةِ اثْنَتَانِ:

.[المسألة] الْأُولَى: بَيْعُ النَّخِيلِ وَفِيهَا الثَّمَرُ مَتَى يَتْبَعُ بَيْعَ الْأَصْلِ وَمَتَى لَا يَتْبَعُهُ؟

:
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ نَخْلًا فِيهَا ثَمَرٌ قَبْلَ أَنْ يُؤَبَّرَ فَإِنَّ الثَّمَرَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ بَعْدَ الْإِبَارِ فَالثَّمَرُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ، وَالثِّمَارُ كُلُّهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي مَعْنَى النَّخِيلِ، وَهَذَا كُلُّهُ لِثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ»، قَالُوا: فَلَمَّا حَكَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ بَعْدَ الْإِبَارِ عَلِمْنَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِبَارِ بِلَا شَرْطٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: هِيَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ الْإِبَارِ، وَبَعْدَهُ، وَلَمْ يُجْعَلِ الْمَفْهُومُ هَاهُنَا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ بَلْ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى، قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَتْ لِلْبَائِعِ بَعْدَ الْإِبَارِ فَهِيَ أَحْرَى أَنْ تَجِبَ لَهُ قَبْلَ الْإِبَارِ. وَشَبَّهُوا خُرُوجَ الثَّمَرِ بِالْوِلَادَةِ، وَكَمَا أَنَّ مَنْ بَاعَ أَمَةً لَهَا وَلَدٌ فَوَلَدُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ كَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الثَّمَنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: سَوَاءٌ أَبَّرَ أَوْ لَمْ يُؤَبِّرْ إِذَا بِيعَ الْأَصْلُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي اشْتَرَطَهَا أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا، فَرَدَّ الْحَدِيثَ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الثَّمَرَ جُزْءٌ مِنَ الْمَبِيعِ، وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْقَوْلِ إِلَّا إِنْ كَانَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يَرُدَّ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا خَالَفَ مَفْهُومَ الدَّلِيلِ فِيهِ. فإذًا سَبَبُ الْخِلَافِ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ - مُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ لِدَلِيلِ مَفْهُومِ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ، لَكِنَّهُ هَاهُنَا ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ.
وَأَمَّا سَبَبُ مُخَالَفَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: فَمُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلسَّمَاعِ، وَهُوَ كَمَا قُلْنَا ضَعِيفٌ. وَالْإِبَارُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: أَنْ يَجْعَلَ طَلْعَ ذُكُورِ النَّحْلِ فِي طَلْعِ إِنَاثِهَا، وَفِي سَائِرِ الشَّجَرِ أَنْ تُنَوَّرَ وَتُعْقَدَ، وَالتَّذْكِيرُ فِي شَجَرِ التِّينِ الَّتِي تُذَكَّرُ فِي مَعْنَى الْإِبَارِ، وَإِبَارُ الزَّرْعِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ إِبَارَهُ أَنْ يُفْرَكَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الثَّمَرِ. وَهَلِ الْمُوجِبُ لِهَذَا الْحُكْمِ هُوَ الْإِبَارُ أَوْ وَقْتُ الْإِبَارِ؟
قِيلَ الْوَقْتُ، وَقِيلَ الْإِبَارُ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي الِاخْتِلَافُ إِذَا أُبِّرَ بَعْضُ النَّخِيلِ، وَلَمْ يُؤَبَّرِ الْبَعْضُ، هَلْ يَتْبَعُ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مَا أُبِّرَ أَوْ لَا يَتْبَعْهُ؟
وَاتَّفَقُوا فِيمَا أَحْسَبُهُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ ثَمَرٌ وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْإِبَارِ فَلَمْ يُؤَبَّرْ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُؤَبَّرِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِي بَيْعِ مَالِ الْعَبْدِ:

وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَالِ الْعَبْدِ: هَلْ يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ؟
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَالَهُ فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ لِسَيِّدِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْكُوفِيُّونَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَالَهُ تَبَعٌ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فِي الْعِتْقِ لَا فِي الْبَيْعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُشْتَرِي، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ. فَحُجَّةُ مَنْ رَأَى أَنَّ مَالَهُ فِي الْبَيْعِ لِسَيِّدِهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَشْهُورُ، عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ». وَمَنْ جَعَلَهُ لِسَيِّدِهِ فِي الْعِتْقِ فَقِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ. وَحُجَّةُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ تَبَعٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ: انْبَنَتْ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مَالِكًا عِنْدَهُمْ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا (أَعْنِي: هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ، أَوْ لَا يَمْلِكُ؟
) وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا غَلَّبُوا الْقِيَاسَ عَلَى السَّمَاعِ، لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هُوَ حَدِيثٌ خَالَفَ فِيهِ نَافِعٌ سَالِمًا، لِأَنَّ نَافِعًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَالِمًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا مَالِكٌ، فَغَلَّبَ الْقِيَاسَ فِي الْعِتْقِ وَالسَّمَاعَ فِي الْبَيْعِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُبْتَاعَ إِذَا اشْتَرَطَ مَالَ الْعَبْدِ فَهُوَ لَهُ نَقْدًا كَانَ، أَوْ عَرَضًا، أَوْ دَيْنًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ غُلَامًا فَمَالُهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ سَيِّدُهُ»، وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ وَمَالَهُ بِدَرَاهِمَ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْعَبْدِ دَرَاهِمَ أَوْ فِيهِ دَرَاهِمُ. وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ إِذَا كَانَ مَالُ الْعَبْدِ نَقْدًا، وَقَالُوا: الْعَبْدُ وَمَالُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَاعَ شَيْئَيْنِ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لِبَعْضِ مَالِ الْعَبْدِ فِي صَفْقَةِ الْبَيْعِ: فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: جَائِزٌ أَنْ يَشْتَرِطَ بَعْضَهُ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَا اشْتَرَى بِهِ الْعَبْدَ عَيْنًا وَفِي مَالِ الْعَبْدِ عَيْنٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ دَرَاهِمُ بِعَرَضٍ وَدَرَاهِمَ، وَإِنْ كَانَ مَا اشْتَرَى بِهِ عَرُوضًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِ الْعَبْدِ دَرَاهِمُ جَازَ. وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ بَعْضَهُ: تَشْبِيهُهُ بِثَمَرِ النَّخْلِ بَعْدَ الْإِبَارِ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ تَشْبِيهُ الْجُزْءِ بِالْكُلِّ، وَفِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُ مَسْكُوتٌ عَنْهَا كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ مِمَّا قَصَدْنَاهُ. وَمِنْ مَشْهُورِ مَسَائِلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ: الزِّيَادَةُ، وَالنُّقْصَانُ اللَّذَانِ يَقَعَانِ فِي الثَّمَنِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ بَعْدَ الْبَيْعِ بِمَا يَرْضَى بِهِ الْمُتَبَايِعَانِ (أَعْنِي: أَنْ يَزِيدَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ أَوْ يَحُطَّ مِنْهُ الْبَائِعُ، هَلْ يَتْبَعُ حُكْمَ الثَّمَنِ أَمْ لَا؟
)، وَفَائِدَةُ الْفَرْقِ: أَنَّ مَنْ قَالَ هِيَ مِنَ الثَّمَنِ أَوْجَبَ رَدَّهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَيْضًا مَنْ جَعَلَهَا فِي حُكْمِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إِنْ كَانَتْ فَاسِدَةَ الْبَيْعِ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا مِنَ الثَّمَنِ (أَعْنِي: الزِّيَادَةَ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا مِنْ هَذَا)، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا مِنَ الثَّمَنِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَلَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، بَلِ الْحُكْمُ لِلثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَلْحَقُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ بِالثَّمَنِ أَصْلًا وَهُوَ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَلْحَقَ الزِّيَادَةَ بِالثَّمَنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} قَالُوا: وَإِذَا لَحِقَتِ الزِّيَادَةُ فِي الصَّدَاقِ بِالصَّدَاقِ لَحِقَتْ فِي الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ. وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي: بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَلْحَقُ فِي الشُّفْعَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ: مَنْ رَأَى أَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ قَدْ تَقَرَّرَ قَالَ: الزِّيَادَةُ هِبَةٌ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا فَسْخٌ لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَعَقْدٌ ثَانٍ عَدَّهَا مِنَ الثَّمَنِ.

.الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ:

وَإِذَا اتَّفَقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الْبَيْعِ وَاخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَلَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ: فَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ بِالْجُمْلَةِ، وَمُخْتَلِفُونَ فِي التَّفْصِيلِ (أَعْنِي: فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُحْكَمُ فِيهِ بِالْأَيْمَانِ وَالتَّفَاسُخِ). فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ: إِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ مَا لَمْ تَفُتْ عَيْنُ السِّلْعَةِ، فَإِنْ فَاتَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ: يَتَحَالَفَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، وَيَتَفَاسَخَانِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَالثَّانِيَةُ رِوَايَةُ أَشْهَبَ، وَالْفَوْتُ عِنْدَهُ يَكُونُ بِتَغْيِيرِ الْأَسْوَاقِ، وَبِزِيَادَةِ الْمَبِيعِ، وَنُقْصَانِهِ. وَقَالَ دَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ زُفَرُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّفَاسُخُ عِنْدَهُمْ وَالتَّحَالُفُ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَثْمُونِ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّحَالُفُ، وَالتَّفَاسُخُ، وَإِنَّمَا صَارَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ إِلَى الْقَوْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِالتَّحَالُفِ، وَالتَّفَاسُخِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي عَدَدِ الثَّمَنِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا بَيِّعَيْنِ تَبَايَعَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، أَوْ يَتَرَادَّانِ». فَمَنْ حَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى وُجُوبِ التَّفَاسُخِ، وَعُمُومِهِ قَالَ: يَتَحَالَفَانِ فِي كُلِّ حَالٍ وَيَتَفَاسَخَانِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَسَاوَى فِيهَا دَعْوَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي قَالَ: إِذَا قَبَضَ السِّلْعَةَ، أَوْ فَاتَتْ فَقَدْ صَارَ الْقَبْضُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي، وَشُبْهَةً لِصِدْقِهِ، وَالْيَمِينُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ شُبْهَةً، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَالِكٍ فِي الْأَيْمَانِ، وَلِذَلِكَ يُوجِبُ فِي مَوَاضِعَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَفِي مَوَاضِعَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبِ الْيَمِينُ بِالنَّصِّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي الْأَكْثَرِ أَقْوَى شُبْهَةً، فَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي فِي مَوَاطِنَ أَقْوَى شُبْهَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ فِي حَيِّزِهِ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ الْبَائِعَ مُقِرٌّ لِلْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ، وَمُدَّعٍ عَلَيْهِ عَدَدًا مَا فِي الثَّمَنِ.
وَأَمَّا دَاوُدُ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فَرَدُّوا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ، لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَإِنَّمَا خَرَّجَهُ مَالِكٌ. وَعَنْ مَالِكٍ: إِذَا نَكَلَ الْمُتَبَايِعَانِ عَنِ الْأَيْمَانِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْفَسْخُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ؟
فِي الْمَذْهَبِ فِيهِ خِلَافٌ، فَالْأَشْهَرُ الْبَائِعُ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ، وَهَلْ إِذَا وَقَعَ التَّفَاسُخُ يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَخْتَارَ قَوْلَ صَاحِبِهِ؟
فِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ.

.الْجُزْءُ الْخَامِسُ الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ لِلْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ:

.الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنَ النَّظَرِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْبُيُوعِ:

(وَهُوَ النَّظَرُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا وَقَعَ): فَنَقُولُ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ إِذَا وَقَعَتْ وَلَمْ تَفُتْ بِإِحْدَاثِ عَقْدٍ فِيهَا أَوْ نَمَاءٍ، أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ حَوَالَةِ سُوقٍ أَنَّ حُكْمَهَا الرَّدُّ (أَعْنِي: أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَالْمُشْتَرِي الْمَثْمُونَ). وَاخْتَلَفُوا إِذَا قُبِضَتْ وَتُصُرِّفَ فِيهَا البيوع الفاسدة بِعِتْقٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ: هَلْ ذَلِكَ فَوْتٌ يُوجِبُ الْقِيمَةَ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَمَتْ أَوْ نَقَصَتْ؟
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَوْتًا، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ الرَّدُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ ذَلِكَ فَوْتٌ يُوجِبُ الْقِيمَةَ إِلَّا مَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي الرِّبَا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَوْتٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ أحكامها عِنْدَ مَالِكٍ تَنْقَسِمُ إِلَى مُحَرَّمَةٍ، وَإِلَى مَكْرُوهَةٍ: فَأَمَّا الْمُحَرَّمَةُ: فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ مَضَتْ بِالْقِيمَةِ.
وَأَمَّا الْمَكْرُوهَةُ: فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ صَحَّتْ عِنْدَهُ، وَرُبَّمَا صَحَّ عِنْدَهُ بَعْضُ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ بِالْقَبْضِ لِخِفَّةِ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ. فَالشَّافِعِيَّةُ تُشَبِّهُ الْمَبِيعَ الْفَاسِدَ لِمَكَانِ الرِّبَا، وَالْغَرَرَ بِالْفَاسِدِ لِمَكَانِ تَحْرِيمِ عَيْنِهِ، كَبَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهِ فَوْتٌ. وَمَالِكٌ يَرَى أَنَّ النَّهْيَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إِنَّمَا هُوَ لِمَكَانِ عَدَمِ الْعَدْلِ فِيهَا (أَعْنِي: بُيُوعَ الرِّبَا وَالْغَرَرِ)، فَإِذَا فَاتَتِ السِّلْعَةُ فَالْعَدْلُ فِيهَا هُوَ الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تُقْبَضُ السِّلْعَةُ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا، وَتُرَدُّ وَهِيَ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَلِذَلِكَ يَرَى مَالِكٌ حَوَالَةَ الْأَسْوَاقِ فَوْتًا فِي الْمَبِيعِ الْفَاسِدِ. وَمَالِكٌ يَرَى فِي الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ أَنَّهُ إِذَا فَاتَ وَكَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُسْلِفَ رَدَّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ مَا لَمْ تَكُنْ أَزْيَدَ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ رَفَعَ لَهُ فِي الثَّمَنِ لِمَكَانِ السَّلَفِ، فَلَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يَرُدَّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي أَسْلَفَ الْبَائِعَ فَقَدْ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ لِمَكَانِ السَّلَفِ، فَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيمَةُ رَدَّهَا مَا لَمْ تَكُنْ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ إِنَّمَا وَقَعَ الْمَنْعُ فِيهَا لِمَكَانِ مَا جُعِلَ فِيهَا مِنَ الْعِوَضِ مُقَابِلَ السَّلَفِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعٌ لِعَوْنِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَمَالِكٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَفْقَهُ مِنَ الْجَمِيعِ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا تَرَكَ الشَّرْطَ قَبْلَ الْقَبْضِ (أَعْنِي: شَرْطَ السَّلَفِ): هَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ أَمْ لَا؟
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ: الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ: الْبَيْعُ غَيْرُ مَفْسُوخٍ إِلَّا ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ النَّهْيَ يَتَضَمَّنُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ، فَإِذَا انْعَقَدَ الْبَيْعُ فَاسِدًا لَمْ يُصَحِّحْهُ بَعْدُ رَفْعُ الشَّرْطِ الَّذِي مِنْ قِبَلِهِ وَقَعَ الْفَسَادُ، كَمَا أَنَّ رَفْعَ السَّبَبِ الْمُفْسِدِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ بَعْدَ فَسَادِ الشَّيْءِ لَيْسَ يَقْتَضِي عَوْدَةَ الشَّيْءِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفَسَادِ مِنَ الْوُجُودِ فَاعْلَمْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ الْبَرْمَكِيَّ سَأَلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيَّ، فَقَالَ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ السَّلَفِ، وَالْبَيْعِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ بَاعَ غُلَامًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقِّ خَمْرٍ، فَلَمَّا انْعَقَدَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا قَالَ: أَنَا أَدَعُ الزِّقَّ، وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِجْمَاعٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْعُ السَّلَفِ كَذَلِكَ، فَجَاوَبَ عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابٍ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ. وَإِذْ قَدِ انْقَضَى الْقَوْلُ فِي أُصُولِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ وَأُصُولِ الْبُيُوعِ الصَّحِيحَةِ، وَفِي أُصُولِ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ الصَّحِيحَةِ، وَأُصُولِ الْأَحْكَامِ الْفَاسِدَةِ الْمُشْتَرَكَةِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْبُيُوعِ، أَوْ لِكَثِيرٍ مِنْهَا فَلْنَصِرْ إِلَى مَا يَخُصُّ وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَجْنَاسِ، وَذَلِكَ بِأَنْ نَذْكُرَ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ.

.كِتَابُ الصَّرْفِ:

وَلَمَّا كَانَ يَخُصُّ هَذَا الْبَيْعَ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ النَّسِيئَةِ، (وَهُوَ الْفَوْرُ)، وَالْآخَرُ: عَدَمُ التَّفَاضُلِ، (وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْمِثْلِيَّةِ)؛ كَانَ النَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ يَنْحَصِرُ فِي خَمْسَةِ أَجْنَاسٍ:
الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ نَسِيئَةٌ مِمَّا لَيْسَ بِنَسِيئَةٍ.
الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ مُمَاثِلٌ مِمَّا لَيْسَ بِمُمَاثِلٍ، إِذْ هَذَانِ الْقِسْمَانِ يَنْقَسِمَانِ بِفُصُولٍ كَثِيرَةٍ فَيَعْرِضُ هُنَالِكَ الْخِلَافُ.
الثَّالِثُ: فِيمَا وَقَعَ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَيْعِ بِصُورَةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا هَلْ هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ (أَعْنِي: الزِّيَادَةَ وَالنَّسِيئَةَ)، أَوْ كِلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالذَّرَائِعِ، وَهُوَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى نَوْعَيْنِ كَانْقِسَامِ أَصْلِهِ.
الْخَامِسُ: فِي خَصَائِصِ أَحْكَامِ هَذَا الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ (أَعْنِي: عَدَمَ النَّسَاءِ وَالتَّفَاضُلِ)، أَوْ كِلَيْهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُخَالِفُ هَذَا الْبَيْعُ الْبُيُوعَ لِمَكَانِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِيهِ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ. وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ الْكُتُبَ الْمَوْضُوعَةَ فِي فُرُوعِ الْكِتَابِ الَّذِي يَرْسُمُونَهُ بِكِتَابِ الصَّرْفِ وَجَدْتَهَا كُلَّهَا رَاجِعَةً إِلَى هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْخَمْسَةِ، أَوْ إِلَى مَا تَرَكَّبَ مِنْهَا مَا عَدَا الْمَسَائِلَ الَّتِي يُدْخِلُونَ فِي الْكِتَابِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ مِمَّا لَيْسَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، مِثْلُ إِدْخَالِ الْمِلْكِيَّةِ فِي الصَّرْفِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً هِيَ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ فِي السَّلَفِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَاسِدُ مِنْهَا يَئُولُ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ (أَعْنِي: إِلَى صَرْفٍ بِنَسِيئَةٍ، أَوْ بِتَفَاضُلٍ) أَدْخَلُوهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِثْلَ مَسَائِلِهِمْ فِي اقْتِضَاءِ الْقَائِمَةِ، وَالْمَجْمُوعَةِ، وَالْفُرَادَى بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَصْدُنَا إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ مَنْطُوقٌ بِهَا فِي الشَّرْعِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهَا، رَأَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ سَبْعَ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٍ تَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ لِمَا يَطْرَأُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ إِنَّمَا وَضَعْنَاهُ لِيَبْلُغَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ إِذَا حَصَّلَ مَا يَجِبُ لَهُ أَنْ يُحَصِّلَ قَبْلَهُ مِنَ الْقَدْرِ الْكَافِي لَهُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَصِنَاعَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مُسَاوٍ لِجِرْمِ هَذَا الْكِتَابِ، أَوْ أَقَلَّ، وَبِهَذِهِ الرُّتْبَةِ يُسَمَّى فَقِيهًا لَا بِحِفْظِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَلَوْ بَلَغَتْ فِي الْعَدَدِ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْفَظَهُ إِنْسَانٌ، كَمَا نَجِدُ مُتَفَقِّهَةَ زَمَانِنَا يَظُنُّونَ أَنَّ الْأَفْقَهَ هُوَ الَّذِي حَفِظَ مَسَائِلَ أَكْثَرَ، وَهَؤُلَاءِ عَرَضَ لَهُمْ شَبِيهُ مَا يَعْرِضُ لِمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَفَّافَ هُوَ الَّذِي عِنْدَهُ خِفَافٌ كَثِيرَةٌ لَا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى عَمَلِهَا، وَهُوَ بَيِّنٌ أَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ خِفَافٌ كَثِيرَةٌ سَيَأْتِيهِ إِنْسَانٌ بِقَدَمٍ لَا يَجِدُ فِي خِفَافِهِ مَا يَصْلُحُ لِقَدَمِهِ، فَيَلْجَأُ إِلَى صَانِعِ الْخِفَافِ ضَرُورَةً، وَهُوَ الَّذِي يَصْنَعُ لِكُلِّ قَدَمٍ خُفًّا يُوَافِقُهُ، فَهَذَا هُوَ مِثَالُ أَكْثَرِ الْمُتَفَقِّهَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
وَإِذْ قَدْ خَرَجْنَا عَمَّا كُنَّا بِسَبِيلِهِ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى حَيْثُ كُنَّا مِنْ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَعَدْنَا بِهَا:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ]:

أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمَكِّيِّينَ، فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَهُ مُتَفَاضِلًا، وَمَنَعُوهُ نَسِيئَةً فَقَطْ. وَإِنَّمَا صَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَجْعَلِ الرِّبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَصَارُوا إِلَى مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا شَيْئًا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»، وَهُوَ مِنْ أَصَحِّ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ. فَصَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، إِذْ كَانَتْ نَصًّا فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ رُوِيَ فِيهِ لَفْظَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ»، وَهَذَا لَيْسَ يُفْهَمُ مِنْهُ إِجَازَةُ التَّفَاضُلِ إِلَّا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَارَضَهُ النَّصُّ.
وَأَمَّا اللَّفْظُ الْآخَرُ: وَهُوَ: «لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ»، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَا عَدَا النَّسِيئَةَ فَلَيْسَ بِرِبًا، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: «لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ»، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْأَكْثَرِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُحْتَمَلًا، وَالْأَوَّلُ نَصٌّ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَأَجْمَعَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَسْكُوكَهُ، وَتِبْرَهُ، وَمَصُوغَهُ سَوَاءٌ فِي مَنْعِ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي ذَلِكَ، إِلَّا مُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيزُ التَّفَاضُلَ بَيْنَ التِّبْرِ، وَالْمَصُوغِ لِمَكَانِ زِيَادَةِ الصِّيَاغَةِ، وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِي دَارَ الضَّرْبِ بِوَرَقِهِ، فَيُعْطِيهِمْ أُجْرَةَ الضَّرْبِ وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ دَنَانِيرَ، وَدَرَاهِمَ وَزْنَ وَرِقِهِ أَوْ دَرَاهِمِهِ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ خُرُوجِ الرُّفْقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعِيسَى بْنُ دِينَارٍ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَأَجَازَ مَالِكٌ بَدْلَ الدِّينَارِ النَّاقِصِ بِالْوَازِنِ أَوْ بِالدِّينَارَيْنِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي الْعَدَدِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَى جِهَةِ الْمَعْرُوفِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [بَيْعُ السَّيْفِ، وَالْمُصْحَفِ الْمُحَلَّى]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ الْمُحَلَّى: يُبَاعُ بِالْفِضَّةِ وَفِيهِ حِلْيَةُ فِضَّةٍ، أَوْ بِالذَّهَبِ وَفِيهِ حِلْيَةُ ذَهَبٍ؟
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِجَهْلِ الْمُمَاثَلَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ فِي ذَلِكَ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ قِيمَةُ مَا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةِ الثُّلُثَ فَأَقَلَّ جَازَ بَيْعُهُ (أَعْنِي: بِالْفِضَّةِ إِنْ كَانَتْ حِلْيَتُهُ فِضَّةً، أَوْ بِالذَّهَبِ إِنْ كَانَتْ حِلْيَتُهُ ذَهَبًا)، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ قَلِيلَةً لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً فِي الْبَيْعِ وَصَارَتْ كَأَنَّهَا هِبَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ أَكْثَرَ مِنَ الْفِضَّةِ الَّتِي فِي السَّيْفِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي بَيْعِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْفِضَّةَ الَّتِي فِيهِ أَوِ الذَّهَبَ يُقَابِلُ مِثْلَهُ مِنَ الذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةِ الْمُشْتَرَاةِ بِهِ، وَيَبْقَى الْفَضْلُ قِيمَةَ السَّيْفِ. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: عُمُومُ الْأَحَادِيثِ وَالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا ذَهَبٌ، وَخَرَزٌ، وَهِيَ مِنَ الْمَغَانِمِ تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ يُنْزَعُ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ»، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ كَمَا قُلْنَا فَأَجَازَ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ، وَقَالَ: لَا أَسْكُنُ فِي أَرْضٍ أَنْتَ فِيهَا لِمَا رَوَاهُ مِنَ الْحَدِيثِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [الزَّمَانُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الصَّرْفُ نَاجِزًا]:

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّرْفِ أَنْ يَقَعَ نَاجِزًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَحُدُّ هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: الصَّرْفُ يَقَعُ نَاجِزًا مَا لَمْ يَفْتَرِقِ الْمُتَصَارِفَانِ تَعَجَّلَ أَوْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ بَطَلَ الصَّرْفُ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى كَرِهَ الْمُوَاعَدَةَ فِيهِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ تَرَدُّدُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ»، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِالْأَقَلِّ، وَالْأَكْثَرِ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَالِحٌ لِمَنْ لَمْ يَفْتَرِقْ مِنَ الْمَجْلِسِ (أَعْنِي: أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَاعَ هَاءَ وَهَاءَ).
قَالَ: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي الْمَجْلِسِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا وَقَعَ الْقَبْضُ مِنَ الْمُتَصَارِفَيْنِ عَلَى الْفَوْرِ قَالَ: إِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ عَنِ الْعَقْدِ فِي الْمَجْلِسِ بَطَلَ الصَّرْفُ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ فِي الصَّرْفِ حَوَالَةٌ، وَلَا حَمَّالَةٌ، وَلَا خِيَارٌ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ أَجَازَ فِيهِ الْخِيَارَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي التَّأْخِيرِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْمُتَصَارِفَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، فَمَرَّةً قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ مِثْلُ الَّذِي يَقَعُ بِالِاخْتِيَارِ، وَمَرَّةً قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فِي تَفَاصِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، لَيْسَ قَصْدُنَا ذِكْرَهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ. [فِيمَنِ اصْطَرَفَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا دِرْهَمًا زَائِفًا فَأَرَادَ رَدَّهُ]. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنِ اصْطَرَفَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا دِرْهَمًا زَائِفًا، فَأَرَادَ رَدَّهُ: فَقَالَ مَالِكٌ: يَنْتَقِضُ الصَّرْفُ، وَإِنْ كَانَتْ دَنَانِيرَ كَثِيرَةً انْتَقَضَ مِنْهَا دِينَارًا لِلدِّرْهَمِ فَمَا فَوْقَهُ إِلَى صَرْفِ الدِّينَارِ، فَإِنْ زَادَ دِرْهَمٌ عَلَى دِينَارٍ انْتَقَضَ مِنْهَا دِينَارًا آخَرَ، وَهَكَذَا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى صَرْفِ دِينَارٍ. قَالَ: وَإِنْ رَضِيَ بِالدِّرْهَمِ الزَّائِفِ لَمْ يَبْطُلْ مِنَ الصَّرْفِ شَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بِالدِّرْهَمِ الزَّائِفِ، وَيَجُوزُ تَبْدِيلُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزُّيُوفُ نِصْفَ الدَّرَاهِمِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ رَدَّهَا بَطَلَ الصَّرْفُ فِي الْمَرْدُودِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا رَدَّ الزُّيُوفَ كَانَ مُخَيَّرًا إِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا أَوْ يَكُونَ شَرِيكًا لَهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ فِي الدَّنَانِيرِ (أَعْنِي: لِصَاحِبِ الدَّنَانِيرِ). وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بِالرَّدِّ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا. وَابْنُ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ يُجِيزُ الْبَدَلَ فِي الصَّرْفِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْغَلَبَةَ عَلَى النَّظِرَةِ فِي الصَّرْفِ لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْبَعْضِ، وَهُوَ أَحْسَنُ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بُطْلَانِ الصَّرْفِ بِالزُّيُوفِ قَوْلَانِ. فَيَتَحَصَّلُ لِفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِإِبْطَالِ الصَّرْفِ مُطْلَقًا عِنْدَ الرَّدِّ. وَقَوْلٌ بِإِثْبَاتِ الصَّرْفِ وَوُجُوبِ الْبَدَلِ. وَقَوْلٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ. وَقَوْلٌ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ بَدَلِ الزَّائِفِ أَوْ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا كُلِّهِ: هَلِ الْغَلَبَةُ عَلَى التَّأْخِيرِ فِي الصَّرْفِ مُؤَثِّرَةٌ فِيهِ، أَوْ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ؟
وَإِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فَهَلْ هِيَ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْقَلِيلِ أَوْ فِي الْكَثِيرِ؟
وَأَمَّا وُجُودُ النُّقْصَانِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ اضْطَرَبَ فِيهِ، فَمَرَّةً قَالَ فِيهِ: إِنَّهُ إِنْ رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ جَازَ الصَّرْفُ، وَإِنْ طَلَبَ الْبَدَلَ انْتَقَضَ الصَّرْفُ قِيَاسًا عَلَى الزُّيُوفِ، وَمَرَّةً قَالَ: يَبْطُلُ الصَّرْفُ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا إِذَا قَبَضَ بَعْضَ الصَّرْفِ وَتَأَخَّرَ بَعْضُهُ (أَعْنِي: الصَّرْفَ الْمُنْعَقِدَ عَلَى التَّنَاجُزِ): فَقِيلَ: يَبْطُلُ الصَّرْفُ كُلُّهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقِيلَ: يَبْطُلُ مِنْهُ الْمُتَأَخِّرُ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِي الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ يُخَالِطُهَا حَرَامٌ، وَحَلَالٌ، هَلْ تَبْطُلُ الصَّفْقَةُ كُلُّهَا، أَوِ الْحَرَامُ مِنْهَا فَقَطْ؟

.الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [وَزْنُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ]:

أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاطَلَةَ جَائِزَةٌ فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَفِي الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ لِاتِّفَاقِ الْوَزْنِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ صِفَةُ الذَّهَبَيْنِ وَاحِدَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاطَلَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَخْتَلِفَ صِفَةُ الذَّهَبَيْنِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَنْقُصَ أَحَدُ الذَّهَبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، فَيُرِيدُ الْآخَرُ أَنْ يَزِيدَ بِذَلِكَ عَرَضًا، أَوْ دَرَاهِمَ إِنْ كَانَتِ الْمُرَاطَلَةُ بِذَهَبٍ، أَوْ ذَهَبًا إِنْ كَانَتِ الْمُرَاطَلَةُ بِدَرَاهِمَ. فَذَهَبَ مَالِكٌ: أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ (وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ جِنْسُ الْمُرَاطَلِ بِهِمَا فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ): أَنَّهُ مَتَى رَاطَلَ بِأَحَدِهِمَا بِصِنْفٍ مِنَ الذَّهَبِ الْوَاحِدِ، وَأَخْرَجَ الْآخَرَ ذَهَبَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَجْوَدُ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ وَالْآخَرُ أَرْدَأُ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ مِنَ الذَّهَبَيْنِ (أَعْنِي: الَّذِي أَخْرَجَهُ وَحْدَهُ) أَجْوَدُ مِنَ الذَّهَبَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ اللَّذَيْنِ أَخْرَجَهُمَا الْآخَرُ، أَوْ أَرْدَأُ مِنْهُمَا مَعًا، أَوْ مِثْلُ أَحَدِهِمَا وَأَجْوَدُ مِنَ الثَّانِي، جَازَتِ الْمُرَاطَلَةُ عِنْدَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا اخْتَلَفَ الذَّهَبَانِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمِيعُ الْكُوفِيِّينَ، وَالْبَصْرِيِّينَ: يَجُوزُ جَمِيعُ ذَلِكَ. وَعُمْدَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي مَنْعِهِ ذَلِكَ: الِاتِّهَامُ، وَهُوَ مُصَيِّرٌ إِلَى الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَّهِمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَاطِلُ إِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ بَيْعَ الذَّهَبَيْنِ مُتَفَاضِلًا، فَكَأَنَّهُ أَعْطَى جُزْءًا مِنَ الْوَسَطِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنَ الْأَرْدَإِ، أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنَ الْأَعْلَى، فَيَتَذَرَّعُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ إِنْسَانًا قَالَ لِآخَرَ: خُذْ مِنِّي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مِثْقَالًا وَسَطًا بِعِشْرِينَ مِنَ الْأَعْلَى، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ هَذَا لَنَا، وَلَكِنْ أُعْطِيكَ عِشْرِينَ مِنَ الْأَعْلَى، وَعَشَرَةً أَدْنَى مِنْ ذَهَبِكَ، وَتُعْطِينِي أَنْتَ ثَلَاثِينَ مِنَ الْوَسَطِ، فَتَكُونُ الْعَشَرَةُ الْأَدْنَى يُقَابِلُهَا خَمْسَةٌ مِنْ ذَهَبِكَ، وَيُقَابِلُ الْعِشْرِينَ مِنْ ذَهَبِ الْوَسَطِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذَهَبِكَ الْأَعْلَى. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: اعْتِبَارُ التَّفَاضُلِ الْمَوْجُودِ فِي الْقِيمَةِ. وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ: اعْتِبَارُ وُجُودِ الْوَزْنِ مِنَ الذَّهَبَيْنِ وَرَدُّ الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ. وَكَمَثَلِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُصَارَفَةِ الَّتِي تَكُونُ بِالْمُرَاطَلَةِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْمُصَارَفَةِ الَّتِي تَكُونُ بِالْعَدَدِ (أَعْنِي: إِذَا اخْتَلَفَتْ جَوْدَةُ الذَّهَبَيْنِ أَوِ الْأَذْهَابِ).
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ إِذَا نَقَصَتِ الْمُرَاطَلَةُ، فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَزِيدَ شَيْئًا آخَرَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا، أَوْ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ، فَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ، مِثْلُ أَنْ يُرَاطِلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ذَهَبٌ بِذَهَبٍ، فَيَنْقُصُ أَحَدُ الذَّهَبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، فَيُرِيدُ الَّذِي نَقَصَ ذَهَبُهُ أَنْ يُعْطِيَ عِوَضَ النَّاقِصِ دَرَاهِمَ، أَوْ عَرَضًا، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَالْمُرَاطَلَةُ فَاسِدَةٌ، وَأَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْكُوفِيُّونَ. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ: تَقْدِيرُ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ مِنَ الذَّهَبَيْنِ، وَبَقَاءُ الْفَضْلِ مُقَابِلَ الْعَرَضِ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: التُّهْمَةُ فِي أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا.
وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: عَدَمُ الْمُمَاثَلَةِ بِالْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ الَّذِي بِالْفَضْلِ، وَمِثْلُ هَذَا يَخْتَلِفُونَ إِذَا كَانَتِ الْمُصَارَفَةُ بِالْعَدَدِ.

.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: [صَرْفُ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ]:

وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلَيْنِ يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَنَانِيرُ، وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَارَفَاهَا وَهِيَ فِي الذِّمَّةِ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا كَانَا قَدْ حَلَّا مَعًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ فِي الْحَالِ وَفِي غَيْرِ الْحَالِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَلَّا أَوْ لَمْ يَحِلَّا. وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ: أَنَّهُ غَائِبٌ بِغَائِبٍ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ غَائِبٌ بِنَاجِزٍ كَانَ أَحْرَى أَنْ لَا يَجُوزَ غَائِبٌ بِغَائِبٍ.
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَأَقَامَ حُلُولَ الْأَجَلَيْنِ فِي ذَلِكَ مَقَامَ النَّاجِزِ بِالنَّاجِزِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَا حَالَّيْنِ مَعًا، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ كِنَانَةَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ الصَّرْفِ عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُمَا إِذَا دَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، مِثْلُ أَنْ يَسْتَقْرِضَاهُ فِي الْمَجْلِسِ فَتَقَابَضَاهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَكَرِهَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَاسْتَخَفَّهُ مِنَ الطَّرَفِ الْوَاحِدِ (أَعْنِي: إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْمُسْتَقْرِضَ فَقَطْ). وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَرَاهِمُ إِلَى أَجَلٍ: هَلْ يَأْخُذُ فِيهَا إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ ذَهَبًا أَوْ بِالْعَكْسِ؟
فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْقَبْضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ الْأَجَلُ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَجَلُ حَالًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، أَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ، وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِ: «وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ».

.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: [فِي الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ]:

اخْتُلِفَ فِي الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا الْأَكْثَرَ، وَالْآخَرُ تَبَعًا لِصَاحِبِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّرْفُ فِي دِينَارٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي دَنَانِيرَ، وَقِيلَ إِنْ كَانَ الصَّرْفُ فِي دِينَارٍ وَاحِدٍ جَازَ كَيْفَمَا وَقَعَ، وَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرَ اعْتُبِرَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ فِي الْجَوَازِ، فَإِنْ كَانَا مَعًا مَقْصُودَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَأَجَازَ أَشْهَبُ الصَّرْفَ وَالْبَيْعَ، وَهُوَ أَجْوَدُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُؤَدِّي إِلَى رِبًا، وَلَا إِلَى غَرَرٍ.

.كِتَابُ السَّلَمِ:

وَفِي هَذَا الْكِتَابِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي مَحِلِّهِ وَشُرُوطِهِ.
الْبَابُ الثَّانِي: فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَضِيَ مِنَ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بَدَلَ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ السَّلَمُ، وَمَا يَعْرِضُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِقَالَةِ وَالتَّعْجِيلِ وَالتَّأْخِيرِ.
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّلَمِ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي مَحِلِّ السلم وَشُرُوطِهِ:

أَمَّا مَحِلُّهُ: فَإِنَّهُمُ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهِ فِي كُلِّ مَا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ، لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورِ قَالَ: «قَدِمَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِمُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي ثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ». وَاتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِهِ فِيمَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَهِيَ الدُّورُ وَالْعَقَارُ.
وَأَمَّا سَائِرُ ذَلِكَ مِنَ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَمَنَعَ ذَلِكَ دَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ مُصَيَّرًا إِلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي تَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ، وَالْعَدَدِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَنْضَبِطُ مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ وَالرَّقِيقُ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّ السَّلَمَ فِيهِمَا جَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَعَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ. وَعُمْدَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ السَّلَفِ فِي الْحَيَوَانِ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ. وَرُبَّمَا احْتَجُّوا أَيْضًا بِنَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً. وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا، فَنَفَدَتِ الْإِبِلُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قِلَاصِ الصَّدَقَةِ، فَأَخَذَ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ». وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا». قَالُوا: وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ. فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَالثَّانِي: تَرَدُّدُ الْحَيَوَانِ بَيْنَ أَنْ يُضْبَطَ بِالصِّفَةِ أَوْ لَا يُضْبَطُ. فَمَنْ نَظَرَ إِلَى تَبَايُنِ الْحَيَوَانِ فِي الْخَلْقِ، وَالصِّفَاتِ وَبِخَاصَّةٍ صِفَاتُ النَّفْسِ قَالَ: لَا تَنْضَبِطُ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى تَشَابُهِهَا قَالَ: تَنْضَبِطُ. وَمِنْهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْبَيْضِ وَالدُّرِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَلَمْ يُجِزْ أَبُو حَنِيفَةَ السَّلَمَ فِي الْبَيْضِ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ بِالْعَدَدِ.
وَكَذَلِكَ فِي اللَّحْمِ: أَجَازَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَكَذَلِكَ السَّلَمُ فِي الرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ: أَجَازَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَكَذَلِكَ السَّلَمُ فِي الدُّرِّ وَالْفُصُوصِ: أَجَازَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ. وَقَصْدُنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِنَّمَا هُوَ الْأُصُولُ الضَّابِطَةُ لِلشَّرِيعَةِ لَا إِحْصَاءُ الْفُرُوعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ.
وَأَمَّا شُرُوطُهُ السلم: فَمِنْهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا: أَمَّا الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا: فَهِيَ سِتَّةٌ:
مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ، وَالْمَثْمُونُ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ النَّسَاءُ، وَامْتِنَاعُهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسَاءُ، وَذَلِكَ إِمَّا اتِّفَاقُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا يَرَاهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِمَّا اتِّفَاقُ الْجِنْسِ عَلَى مَا يَرَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِمَّا اعْتِبَارُ الطُّعْمِ مَعَ الْجِنْسِ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي عِلَّةِ النَّسَاءِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا إِمَّا بِالْكَيْلِ، أَوْ بِالْوَزْنِ، أَوْ بِالْعَدَدِ إِنْ كَانَ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَلْحَقَهُ التَّقْدِيرُ، أَوْ مُنْضَبِطًا بِالصِّفَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الصِّفَةَ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ أَجَلًا بَعِيدًا، لِئَلَّا يَكُونَ مِنْ بَابِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، هَذَا فِي الْجُمْلَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي تَأْخِيرِ نَقْدِ الثَّمَنِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ السلم عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْمُدَّةِ الْكَثِيرَةِ، وَلَا مُطْلَقًا، فَأَجَازَ مَالِكٌ اشْتِرَاطَ تَأْخِيرِ الْيَوْمَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، وَأَجَازَ تَأْخِيرُهُ بِلَا شَرْطٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ شَرْطُهُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ كَالصَّرْفِ، فَهَذِهِ سِتَّةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَرْبَعَةٍ: أَحَدهَا: الْأَجَلُ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِيهِ أَمْ لَا؟
وَالثَّانِي: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ مَوْجُودًا فِي حَالِ عَقْدِ السَّلَمِ أَمْ لَا؟
وَالثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ مَكَانِ دَفْعِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُقَدَّرًا إِمَّا مَكِيلًا، وَإِمَّا مَوْزُونًا، وَإِمَّا مَعْدُودًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ جُزَافًا.
فَأَمَّا الْأَجَلُ هل هو شرط في السلم أم لا؟
:
فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ هُوَ عِنْدَهُ شَرْطُ صِحَّةٍ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَالِكٌ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ شَرْطِ السَّلَمِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَخَرَّجُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ جَوَازُ السَّلَمِ الْحَالِّ.
وَأَمَّا اللَّخْمِيُّ فَإِنَّهُ فَصَّلَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ السَّلَمَ فِي الْمَذْهَبِ يَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: سَلَمٌ حَالٌّ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ بَيْعُ تِلْكَ السِّلْعَةِ وَسَلَمٌ مُؤَجَّلٌ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ بَيْعُ تِلْكَ السِّلْعَةِ. وَعُمْدَةُ مَنِ اشْتَرَطَ الْأَجَلَ شَيْئَانِ: ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْأَجَلُ كَانَ مِنْ بَابِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْبَائِعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِذَا أَجَازَ مَعَ الْأَجَلِ فَهُوَ حَالًّا أَجْوَزُ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ غَرَرًا، وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّتِ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى جَمَلًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ بِوَسْقِ تَمْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ لَمْ يَجِدِ التَّمْرَ، فَاسْتَقْرَضَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرًا، وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ». قَالُوا: فَهَذَا هُوَ شِرَاءٌ حَالٌّ بِتَمْرٍ فِي الذِّمَّةِ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ السَّلَمَ إِنَّمَا جُوِّزَ لِمَوْضِعِ الِارْتِفَاقِ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِفَ يَرْغَبُ فِي تَقْدِيمِ الثَّمَنِ لِاسْتِرْخَاصِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَالْمُسْلَمُ إِلَيْهِ يَرْغَبُ فِيهِ لِمَوْضِعِ النَّسِيئَةِ، وَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الْأَجَلُ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَجَلِ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هَلْ يُقَدَّرُ بِغَيْرِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ مِثْلُ الْجِذَاذِ، وَالْقِطَافِ، وَالْحَصَادِ، وَالْمَوْسِمِ؟
وَالثَّانِي: فِي مِقْدَارِهِ مِنَ الْأَيَّامِ. وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي مِقْدَارِهِ مِنَ الْأَيَّامِ: أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يُقْتَضَى بِالْبَلَدِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَضَرْبٌ يُقْتَضَى بِغَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ السَّلَمُ: فَإِنِ اقْتَضَاهُ فِي الْبَلَدِ الْمُسْلَمِ فِيهِ: فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ أَجَلٌ تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَسْوَاقُ، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ نَحْوُهَا. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا بَأْسَ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ الْوَاحِدِ.
وَأَمَّا مَا يُقْتَضَى بِبَلَدٍ آخَرَ: فَإِنَّ الْأَجَلَ عِنْدَهُمْ فِيهِ هُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قَلَّتْ أَمْ كَثُرَتْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. فَمَنْ جَعَلَ الْأَجَلَ شَرْطًا غَيْرَ مُعَلَّلٍ اشْتَرَطَ مِنْهُ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَمَنْ جَعَلَهُ شَرْطًا مُعَلَّلًا بِاخْتِلَافِ الْأَسْوَاقِ اشْتَرَطَ مِنَ الْأَيَّامِ مَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَسْوَاقُ غَالِبًا.
وَأَمَّا الْأَجَلُ إِلَى الْجِذَاذِ، وَالْحَصَادِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَكُونُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآجَالِ يَسِيرٌ أَجَازَ ذَلِكَ، إِذِ الْغَرَرُ الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، وَشَبَّهَهُ بِالِاخْتِلَافِ الَّذِي يَكُونُ فِي الشُّهُورِ مِنْ قِبَلِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ كَثِيرٌ، وَأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ قِبَلِ نُقْصَانِ الشُّهُورِ وَكَمَالِهَا لَمْ يُجِزْهُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ مِنْ شَرْطِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَوْجُودًا فِي حِينِ عَقْدِ السَّلَمِ: فَإِنَّ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبَا ثَوْرٍ لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: يَجُوزُ السَّلَمُ فِي غَيْرِ وَقْتِ إِبَّانِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ إِلَّا فِي إِبَّانِ الشَّيْءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ. فَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْإِبَّانَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُسْلِمُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَأُقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ: مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُسْلِمُوا فِي النَّخْلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا»، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْغَرَرَ يَكُونُ فِيهِ أَكْثَرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي حَالِ الْعَقْدِ، وَكَأَنَّهُ يُشْبِهُ بَيْعَ مَا لَمْ يُخْلَقْ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُعَيَّنًا وَهَذَا فِي الذِّمَّةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ السَّلَمُ بَيْعَ مَا لَمْ يُخْلَقْ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ (وَهُوَ مَكَانُ الْقَبْضِ): فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اشْتَرَطَهُ تَشْبِيهًا بِالزَّمَانِ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ غَيْرُهُ وَهُمُ الْأَكْثَرُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: الْأَفْضَلُ اشْتِرَاطُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ (وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُقَدَّرًا مَكِيلًا، أَوْ مَوْزُونًا، أَوْ مَعْدُودًا، أَوْ مَذْرُوعًا لَا جُزَافًا): فَاشْتَرَطَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَا صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، قَالُوا: وَلَيْسَ يُحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ نَصٌّ، إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ الْجُزَافِ، إِلَّا فِيمَا يَعْظُمُ الْغَرَرُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي السَّلَمِ يَكُونُ بِالْوَزْنِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْوَزْنُ، وَبِالْكَيْلِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَيْلُ، وَبِالذَّرْعِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الذَّرْعُ، وَبِالْعَدَدِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْعَدَدُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ انْضَبَطَ بِالصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْجِنْسِ مَعَ ذِكْرِ الْجِنْسِ إِنْ كَانَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، أَوْ مَعَ تَرْكِهِ إِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ السَّلَمَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الذِّمَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي مُعَيَّنٍ، وَأَجَازَ مَالِكٌ السَّلَمَ فِي قَرْيَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً، وَكَأَنَّهُ رَآهَا مِثْلَ الذِّمَّةِ.